>كنت في سيارتي انتظر صديقاً في حارة من حواري جدة القديمة بعد صلاة
>العشاء .. عندما طرقت زجاج شباكي سيدة عجوز تطلب أن أوصلها إلى دكاكين
>سوق باب مكة القريب.. كنت أتوقع أن صديقي سيتأخر قرابة النصف ساعة في
>معهد ليلي .. وأنني سأعود قبل خروجه من الحصة الأخيرة ، فلم أهتم
>بإبلاغه ..
>وفي الطريق إلى السوق حكت لي قصتها .. تقول بأنها أم لسيدة مات عنها
>زوجها وتركها مع عدد من الأطفال ، أكثرهم في سن المدرسة .. وهي تعيش مع
>ابنتها وأحفادها في مأوى (رباط) وفـّـره أهل الخير لها ولمقطوعات مثلها
>.. وهي لا تشكو ، بل الحمد لله على الستر وتفخر بأن أحفادها كلهم "
>أولاد مدارس ".. من البيت إلى المدرسة إلى المسجد .. (وماهم عيال شوارع
>وقهاوي ، وقلة أدب ، مربين احسن تربية ، وعينهم مليانة من كل شئ) كما
>تقول ..
>
>وتفصّـل في مسألة العين المليانة فتقول .. أنا وبنتي حريصين الأولاد
>يكونوا دايماً شبعانين .. ومافي في نفسهم شئ ، وما تنقصهم حاجة .
>والحمدلله الخير كثير .. والأولاد ماهم حاسين بأي نقص ، الله يديم
>المعروف ..
>
>وبقيت أسمع فخرها بأحفادها .. والخير الذي هم غارقين فيه ، حتى وصلنا
>السوق .. قلت لها بأنني سأعيدها إلى البيت .. وانتظرت أرقبها وهي تفاصل
>مع بائع الجبنة والعيش .. ثم تشتري قليلاً من الجبن والطحينة وأربعة
>اقراص سميط . سألتها بعد أن عادت: هذا هو العشاء ؟ قالت : ويزيد للفطور
>، بركة ، ياولدي ، بركة ..
>
>أحسست بغصة في حلقي ، وكرهت أن يكشفها صوتي فسكت . ثم عدت أسألها بعد
>أن استعدت حديثها عن العيون المليانة و (العيال اللي مو ناقصهم شئ) ..
>بس يا أمي هذا لوحده يكفي؟ ولاّ عندكم شئ غيره؟ قالت: الجود من الموجود
>، والبطر ماهو طيب ياولدي .. الحمدلله ، ناس ماهي محصلة أكل ، وإحنا
>بنفطر ونتغدى ونتعشى .. وليالي الجمعة بيجينا رز ولحم من المبرات وقصور
>الأفراح .. كل شئ بناكل منه ، مو ناقص علينا شئ ..
>
>قلت: واللبس ؟ قالت : كل سنة بيرسلوا لنا أهل الخير هدوم نظيفة .. يمكن
>بعضها ناقص زر ولا سستة ، بس أهو طيب ومقبول .. واللي يحتاج تصليح
>بنصلحه .. يعني اللي يشوفه ما يقول عليه قديم.
>
>قلت: والسكن؟ كم غرفة؟ قالت: هي غرفة .. بس "براح" و "هاوية" ما تحتاج
>حتى مروحة .. وفي الحر عندنا مراوح سعف .. ولاّ بنقعد في الفسحة مع
>الجارات صبح ومساء .. نعمة ولله الحمد.
>
>قلت : وكم أنتم ؟ قالت: أنا وأمهم وثلاث بنات وأربعة أولاد ، الله يطرح
>البركة .
>
>تركتها تعود إلى حديثها عن الخير والنعمة حتى وصلنا إلى بيتها .. وعدت
>وأنا أستعرض شكوى أهلي من ضيق البيت بغرفه الأربع .. وقلة مصروف الأكل
>الذي يذهب كثير منه إلى مرامي البلدية .. وقدم الملابس التي لم يمر على
>بعضها شهور .. فخجلت .. وخجلت .. وبكيت !!
>
>مقال للدكتور : خالد باطرفي – جريدة المدينة